من قتل عبدالله بن المقفع؟ هل كان كتاب الأمان سبباً في مقتله؟!شكيب كاظم
ولد الكاتب المترجم عبدالله بن المقفع في مدينة البصرة عام (106 هـ) وهو من أصول فارسية، إذ ولد في مقاطعة (خوزستان) –الاحواز- ويعد ابن المقفع من المخضرمين، اذ عاصر نهايات الدولة الأموية وبدايات العصر العباسي، ووضع مواهبه وامكاناته الكتابية في خدمة الدولتين، إذ عمل لدى يزيد بن هبيرة آخر الولاة الامويين على العراق، وابنه وليد، حتى إذا أديلت دولة الامويين، وقتل آخر خلفائهم (مروان بن محمد) في شهر ذي الحجة من عام 132هـ عاد ابن المقفع ليعمل كاتباً لسليمان بن علي، عم الخليفة العباسي الثاني ابي جعفر المنصور.
لقد أيقن (روزبة بن داذويه)، وهذا هو اسمه الاصلي، قبل ان يغيره، ويعلن اسلامه على يد (عيسى بن علي) عم الخليفة المنصور، ان لن يكون له شأن في الدولة العربية الاسلامية، إن لم يغير وضعه الاجتماعي والديني تغييرا جذرياً، لذا فأنه اعلن موالاته لبني الاهتم، ودخل في اكنافهم، وتعلم العربية وحذقها هو الطامح، المتطلع الى المعالي، واذ حذق العربية، اضافة الى تمكنه من لغته الام، الفارسية، فإنه وضع هذه الكفاءات في خدمة ذوي الامر، فكتب للامويين والعباسيين من بعدهم –كما قلت- والف كتاباً صغيراً في المبادئ والاخلاق العامة اسماه (الادب الصغير) أردفه بكتاب اوسع وأشمل اسماه (الادب الكبير) كما كتب للمنصور (رسالة الصحابة) أودعها ما يحتاجه الحاكم ليسوس رعيته بالحسنى، وهي اشبه بالقانون الأساسي في مفهوم العصر الحالي، هذه الافكار وجدت صداها بعد اكثر من ثلاثة قرون لدى ابي علي احمد بن محمد بن يعقوب مسكويه (ت421هـ) في كتابه (تجارب الامم) واكثر الباحثين يسمونه (ابن مسكويه) وهما وخطأ، كما ان هناك من يخلط بين ابن الانباري النحوي (ت327هـ) صاحب كتاب (الزاهر في معاني كلمات الناس) وبين الانباري (ت577هـ) صاحب كتابي (الانصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين) و(نزهة الالباب في طبقات الادباء).
تأتي الاخبار بشأن ابن المقفع متناقضة متضاربة، يناقض بعضها بعضاً، الامر الذي يدفعنا الى غربلة هذه المرويات وصولا الى ما نعتقده حقيقة، فاختلفوا في لفظة المقفع، التي صارت له لقباً، والتي تعني تيبس اليد وتشنجها، فمن قائل: ان أباه تولى خراج فارس للحجاج بن يوسف الثقفي وانه مد يده الى بعض المال واحتازه لنفسه، فأمر به الحجاج فضرب، فتيبست يداه، في حين يذكر الاستاذ محمد حسن نائل المرصفي في تحقيقه لكتاب (كليلة ودمنة) سنة 1912 ان الذي ولاه هو والي العراق الشهير خالد بن عبدالله القسري، ونأتي الى خلاف آخر ان الذي عذبه يوسف بن عمر الثقفي، الذي تولى العراق خلفاً لخالد. لكن ابا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (150-255هـ) يذكر في كتابه (البيان والتبيين) خبراً يستحق الوقوف عنده: (واما عبدالله بن المقفع فإن صاحب الاستخراج لما ألح عليه في العذاب قال لصاحب الاستخراج: أعندك مال وأنا أربحك ربحاً ترضاه؟ وقد عرفت وفائي وسخائي وكتماني للسر، فعيني مقدار هذا النجم، فأجابه الى ذلك، فلما صار له مال ترفق به مخافة ان يموت تحت العذاب فيتوى ماله)ص166-ص167هـ، ج2.
ولشرح هذا النص، فإن ابن المقفع، وقد اراد التخلص من العذاب الواقع عليه، سأل صاحب الاستخراج وهو الرجل الموكل باستحصال الاموال ممن اتهم بالاختلاس، ان يستدين منه بعض المال على ان يرجعه اليه منجماً، أي على مراحل، فهنا قلل صاحب الاستخراج من عذاب ابن المقفع، خشية ان يموت ويتوى ماله أي يهلك ويذهب والرواية ضعيفة متهالكة، إذ لا يعقل ان يقترح ابن المقفع مثل هذا المقترح، وهو في تلك الحال؛ تحت وطأة السياط التي تعطل العقل، فكيف تفتق ذهنه عن هذا الاقتراح الماكر؟!! وقبول المقترح من صاحب الاستخراج غير مقنع ومقبول، لذا فأنا أرى ان الرواية من تقولات المتقولين نقلها الجاحظ دون روية وتمحيص وتحسب عليه لا له هو المعروف بالدقة والتثبت.
ونصل الى خلاف آخر، فهناك من يلفظ (المقفع) بصيغة اسم الفاعل –بكسر الفاء- لأن أباه كان يصنع (القفاع) أي المضارب، ويبيعها للناس، والرأي الاول على صيغة اسم المفعول، -بفتح الفاء- هو المشهور وهو الراجح، وحري بنا ترك المرجوح الى الراجح.
لكن الراجح، ان أباه هو الذي تولى أمر خراج فارس، لأن الحجاج ومن جاء بعده من الذين تولوا فارس، أيام عبدالملك وابنه الوليد تولوا فارس، وما كان عبدالله قد ولد بعد، وان أباه هو الذي ضرب وتقفعت يداه، إذ ولد ابن المقفع سنة 106هـ في حين كانت خلافة عبدالملك من 65-86 وابنه الوليد من 86-96هـ، أما خبر وفاته او قتله ففيه خلاف: فهناك من يذكر ان الذي قتله هو (سفيان بن معاوية) والي البصرة لابي جعفر المنصور، واختلف في الكيفية التي قتل بها: فمن قائل انه قطع إرباً إرباً ورمي في تنور مشتعل، وهناك من يزعم انه رمي في بئر وردم البئر بالحجارة، وآخرون يقولون انه قتل بإدخاله حماماً حتى مات فيه اختناقاً، وسبب القتل البشع هذا –إن صح- يعود الى ان عم المنصور (عبدالله بن علي) قد خرج على ابن أخيه المنصور، حتى اذا فشلت حركته، اختفى عند اخيه (سليمان بن علي) والي البصرة، لكن المنصور ظل يطلب عمه لمعاقبته، وإذ اسقط في يد سليمان وقبل ان يسلم اخاه عبدالله الى الخليفة المنصور، تفتقت ذهنية عبدالله بن المقفع العارفة بألوان التحبير والانشاء، عن كتابة وثيقة أمان يصعب على المنصور اختراقها، هو الذي له سابقة بنقض الامان، اذ سبق ان نقض أمانة ليزيد بن هبيرة آخر ولاة الامويين على العراق، اذ استأمنه حتى اذا ظفر به قتله، معللا ذلك ان لن تقوم لدولة بني العباس مكانة اذا لم يستأصل شأفة الامويين، لهذا كتب عبدالله بن المقفع كتاب الامان وفيه كل التحوطات الملزمة، ومما جاء فيه: "ومتى غدر امير المؤمنين بعمه عبدالله فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده احرار، والمسلمون في حل من بيعته" ويذكر الاستاذ عبدالسلام محمد هرون، نقلا عن تاريخ اليعقوبي (3:104) وتاريخ الطبري (9:182) نصاً من كتاب الامان ورد فيه: "فان أنا فعلت او دسست فالمسلمون براء من بيعتي، وفي حل من الايمان والعهود التي أخذتها عليهم" –ن.م.ص166. ص167.
يذكر الدارسون بعض الروايات التي زادت في حنق (سفيان بن معاوية) والي البصرة عليه، منها: ان ابن المقفع سأله أمام جمع من الناس: ما تقول يا سفيان في رجل مات وخلف زوجا وزوجة؟!! والتعريض والاستهانة واضحان في السؤال:
كما انه كان يهزأ من كبر أنفه، فكان سفيان إذا سلم عليه، رد عليه قائلا –عليكما السلام!! واذ قال له مرة: ما ندمت على شيء مثل ما ندمت على سكوت، فأجابه ابن المقفع:
-الخرس زين لك فلا تندم!!
لكني لا استطيع تقبل أي من هذه المرويات، فالاخبار الواردة عن اخلاق وسلوك ابن المقفع تمنعنا من تصديق هذه المرويات، قد تغري السلطة، وقرب الفرد من القادة، بالتجاوز على الناس، وصحيح ان ابن المقفع قد كتب لعيسى بن علي، عم المنصور أيام ولايته على (كرمان) وكذلك اسلم على يديه، وصحيح –كذلك- ان بعض ابناء اسماعيل بن علي –العم الآخر للخليفة المنصور- قد تأدب على يديه، ومن ثم اصبح كاتباً لسليمان بن علي –العم الثالث للخليفة_ أثناء ولايته على البصرة، لكنه يبقى يحس بالصغار، كونه لا يستند الى قاعدة مكينة من العرق والاصل، بالاضافة الى كونه اسلم وشيكاً، في وقت كان –ومازال- للاصل والعرق والدين، الاهمية البالغة في حياة الفرد والمجتمع، ثم ما يذكر عن تمتعه بخلق رضي وصفات حسنة تدفعه بعيداً عن سلوك هذا المسلك، اذ تذكر المصادر ان عبدالحميد بن يحيى الكاتب لدى مروان بن محمد آخر الخلفاء الامويين، بعد ان دالت الدنيا بهم وقتل مروان استخفى لدى عبدالله بن المقفع بالجزيرة، فغمز عليه وفاجأهما الطلب وهما في بيت، فقال الذين دخلوا: ايكما عبدالحميد؟ فقال كل واحد منهما: أنا. خوفاً على صاحبه. فلما عرف عبدالحميد أخذ وسلم الى عبدالجبار، صاحب شرطة ابي العباس السفاح فقتله سنة 132هـ- تراجع ص179 من (البيان والتبيين) بتحقيق الاستاذ حسن السندوبي ط الثانية. القاهرة 1351- 1932).
مع ان ابن خلكان (ت681هـ) في كتابه (وفيات الاعيان) وابن نباتة في (سرح العيون) ينفيان هذه الرواية، اذ ينصان على ان عبدالحميد قتل مع مروان اثناء تراجعه امام زحف الجحافل العباسية، في مدينة بوصير المصرية سنة 132هـ يراجع (البيان والتبيين) طبعة عبدالسلام هرون –ج(1) ص208.
كما ان ابن قتيبة في كتابه (عيون الاخبار) يذكر ان ابن المقفع بلغه ان جاراً له قرر بيع داره لتراكم ديون عليه، فحمل إليه الثمن قائلا: لا تبع. الى غير ذلك من الصفات الحميدة التي تمنعه من ان يتطاول على الوالي بتلك الافعال والاقوال.
أرى ان السبب الأساس في مقتله؛ هو كتاب الامان الذي كتبه لعبدالله بن علي، اذ ان المنصور بعد ان قرأ الكتاب، سأله عن كاتبه، وإذ اخبر بذلك، فأنه –كما أرى- اسرها في نفسه كي ينال منه، لا بل أني أميل الى انه نقل إليه سراً من البصرة الى بغداد، ولم يقم (سفيان بن معاوية) واليه على البصرة بقتله، كما ذكرت المرويات وتفننت في صور قتله، من رمي بالبئر الى حبس في الحمام حتى الموت، الى تقطيعه شلواً شلواً ورميه في تنور مسجور، أختلاف صور القتل يجعلني أميل الى انه نقل سراً الى بغداد، بعد إلقاء القبض عليه في البصرة، نكاية بسليمان بن علي، والي البصرة وعم المنصور، الذي أقيل من منصبه بعد فشل الحركة التي قادها أخوه عبدالله بن علي، والذي أخفاه سليمان عنده، وحبسه المنصور لديه واختفت اخباره وآثاره.
ما يؤيد ما أذهب إليه، انه بعد ان شاع خبر مقتل عبدالله بن المقفع على يد سفيان بن معاوية، سأل عنه سليمان وأخوه عيسى، عما المنصور، فقيل لهما: دخل دار سفيان ولم يخرج، فرفعا أمره الى الخليفة المنصور ابن أخيهما، وأحضر سفيان بين يدي الخليفة مقيدا، وحضر الشهود الذين رأوا دخول ابن المقفع لدار سفيان وعدم مبارحته لها، لكن المنصور يفاجئ الجميع قائلا: أنا انظر في هذا الامر، أرأيتم ان قتلت سفيان به، ثم خرج ابن المقفع من هذا الباب وأشار الى باب خلفه وخاطبكم، ما ترونني صانعا بكم؟ أقتلكم بسفيان؟ فرجعوا كلهم عن الشهادة، واضرب سليمان عن ذكره وعلم انه قتل بعلمه. لقد خاف الشهود بمن فيهم عماه سليمان وعيسى من بطش أبي جعفر، بعد ان ايقن الجميع اضماره الثأر منه في نفسه، ترى اما كان الشهود جميعا حريين بأن يقولوا للمنصور: اسمعنا صوته، او أرنا إياه او أي شيء من هذا القبيل ليحرجوه؟ لكنه الخوف المتأصل في النفوس، والايقان بأن ليس في الامكان احسن مما كان. فلقد دفع عبدالله بن المقفع حياته ثمناً كي يحيا عبدالله بن علي بن عبدالله بن العباس بن عبدالمطلب الهاشمي..وتلك الايام نداولها بين الناس